من عمق الفراغ...

كانت لحظة فاصلة تلك التي أضاءت فيها المصابيح دون سابق إنذار، أو على الأقل هكذا بدت لي. لم يسبق لي -منذ أن وطئت قدمي هذا المسرح- أن رأيته مضاء بهذه الطريقة و بهذا الكم من مصابيح السقف. بدا مختلفا، أكثر كآبة و أكثر حزنا.
لطالما تخيلته (المسرح)مهجورا من سواي غير أنه كان في حقيقة الأمر ممتلئا عن آخره. كان حيا جدا لكن خاليا من الروح. كان الصف الذي يتوسطه مقعدي خاليا من غيرا و كان هذا أمرا بديهيا إذ أنني لا أتخيل مدى الدهشة التي ستنتابني أو قوة الدهشة لو أن عقلي تجاهل كما هائلا من الحياة يتربع تماما بجواري. لاأزال أحاول لم شتات ابتسامتي التي أبدتها المفاجأة التالية التي حلت علي كالصاعقة، إذ أنه لطالما بدت الخشبة قريبة و الرؤية واضحة مما جعلني أتوهم أن موطن جلوسي يقع في الصف الأول أو على الأقل في صف من الصفوف الأولى، لأصعق بأنه إنما يقع في منتصف القاعة، بل إن هنالك متفرجين يحتلون مقاعد الصفوف الأولى جالسين بهدوء و سكون يتفرجون بنظرات ساخرة و ابتسامات متوترة، عيونهم مسمرة على الخشبة و لا تفارقها إلا بين الحين و الآخر ليلقي كل منهم نظرات على الآخرين من جيرانه، نظرات مجاملة، نفور و أحيانا استهزاء و ازدراء. تلك الطاقة التي ينشرونها في نطاقهم أقرب إلى تلك التي ينشرها تجمع من السحالي، زاحفة متظاهرة بالكبرياء أو مسرعة مترقبة و أحينا ساكنة بطريقة مشمئزة، طاقة منفرة لكنها إن كانت لتدل على شيء فإنما تدل على أن هذا النطاق ما هو إلا صفيح على نار، فرغم هدوئه إلا أنه دائم التوتر و أبسط حركة أو تغيير كفيل بتغيير جغرافيته كليا و التأثير فيه جذريا. و مع أنني لاحظت أن هؤلاء القوم لا يلتفتون أبدا خلفهم -و رغم زمجرتي الساخطة و أنا أهم بمغادرة مقعدي لألقي عليه نظرة من أمام و أتفحص نظراتهم الراضية المثبتة كما سبق و وصفت على خشبة المسرح- إلا أنني ما فتئت أن أصبحت متأكدا أن هذا الفعل لا ينم عن تعال بقدر ما ينم عن قلق و اضطراب شديدين.
و في طريق عودتي إلى مجلسي إذ بعيناي تقع على طائفة أخرى أغرب من سابقتها، مجموعة عظيمة العدد، متناقضة تتناسق تناقضاتها مع تناقضات أفرادها التي ترتبط معها اضطرادا بالسببية. بدت هذه الطائفة من الناس ثنائية القطب، تراها هادئة للحظات، ساكنة تنظر إلى العرض مركزة تارة، تائهة حائرة تارة أخرى، مندهشة حينا و غاضبة مشتعلة أحيانا أخرى. و قد تراها بعد ذلك بلحظات متفرقة مشتتة الأفراد، فئات منهم يقاتل أفرادها بعضهم البعض، بينما يقف بعضهم مختارين لعب دور المشاهد، و يختار آخرون أن يتحولوا إلى ما يشبه "محامي الشيطان" ليقاتلوا بعضهم البعض مستخدمين الكلمات سلاحا. و قد لا حظت في كثير من الأحيان كيف تتجه نظرات الجميع و هي تشتعل غضبا و حقدا إلى محتلي مقاعد الصفوف الأولى، و سمعت شعارات التنديد باللامساواة و انعدام العدالة و الاستغلال الذي يدعي هؤلاء أن الطائفة الأولى تمارسه و به تستطيع الحفاظ على مكانها. رأيت تحالفات تشكلت من هذه الأفكار و قرأت على الجدران كلمات تعادل مقالات كاملة، لكنني لم أر قط أحدا يحاول بلوغ تلك الصفوف، و لم أشهد قط محاولة واحدة لتغيير جغرافية هذه القاعة، ربما الاقتتال فيما بينهم شغلهم عن المحاولة الجادة لإنزال تلك الأفكار و المشاعر على أرض الواقع و جعلهم يدور في حلقة لا نهائية تنتهي لتبدأ من جديد بنفس المتغير و بنفس الشرط البدئي تقريبا، كما جعلني أتجاوزهم و أتجاوز أمرهم.
أخيرا، استويت على مقعدي الخشبي و رحت أجول ببصري مجمل القاعة عندما مرت بذهني خاطرة تسارع السرعة لكنها كانت بطيئة بما فيه الكفاية لألتقطها، و فعالة بما فيه الكفاية أيضا لتفتح نوافذ وعيي على واقع مخيف لشخصي. لقد جلت القاعة و وقفت لفترات طويلة أحدق بالمجموعتين اللتان تحتلان المكان مع ذلك لم يبدُ أن أحد منهم لاحظني و لم يبدِ أي منهم ردة فعل تدل على عكس ذلك. و فقط أنداك أدركت أين تتوازى خطوط وجودي أنا و الستار، فهو موجود قوةً يتقدم العرض و أنا أتوسط وجودين متضادين داخل وجود شامل يحتوي وجودي الفارغ من سواي، ما يعني أنني أتوسط اللاشيء...ما يجعلني لا شيء؟؟؟   

Commentaires

  1. جميل سافرت بنا الكلمات إلى اماكن مختلفة :على الركح أوبين الجمهور وأفكار واقعية مختلفة .

    RépondreSupprimer

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

مراجعة رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد".

مذكرات كاتب بجتر الموت: عندما يعبث بالموت العقلاء

مذكرات كاتب يجتر الموت: آخر ملوك السماء