عن الذاكرة... الجحيم الذي سينقذنا

 

...الرصاصة الفضية للنظام العالمي الجديد

لو كان للشيطان أن يطلب سلاحا لاختار الذاكرة و لو أذن للملائكة بجهاده لفعلوا بالذاكرة. هذا المفهوم الفضفاض المتنكر بين مفاتيح الجنة، مترصدا لأي أحمق قد يقرر الخوض في ثناياه ليفتح عليه صنابير الجحيم و يقيده بسلاسل الحيرة ثم يرمي به في بئر الشك محاطا بظلمة الترقب، وحيدا، يغرر به الأمل تارة و ينكل به الاحباط تارة أخرى،   فلا يغدو إلا وسيلة تسلية لممثل خبيث مهووس بالتنقل بين دوري الشرطي الجيد و الشرطي الشرير

أول مرة ساقني فيها حظي التعيس إلى متاهات هذا المفهوم كانت و أنا أحاول إيجاد أسباب منطقية و مقنعة تجعل من "السيطرة و استعباد العالم من قبل الذكاء الاصطناعي" أمرا مستحيل الحدوث أو- في أسوأ الأحوال- مستبعد الحدوث، متجاوزة بذلك حقيقة أن هذا الذكاء إنما هو صناعة البشر، و لا يمكن لمخلوق أن يجاوز خالقه في العلم مهما جاوزه في التأقلم مع طرق تطبيقه. و مع ذلك فربما كنت محقة بهذا التجاوز، ذلك أنه ما من وحش يبعث إلى الوجود إلا و كان صانعه أول أو آخر ضحاياه. فهذه الوحوش- بطبيعتها الخالية من الحياة الروحية- إما أن تستبيح الدمار متحججة بمقتها للهيئة التي وجدت عليها و الأسباب التي خلقت من أجلها، و إما أن تهدف إلى الدمار مدعية أفضليتها و تميزها و حاجتها الماسة إلى عالم جديد مستعد لقبولها دونما إحاطتها بحدود و قواعد و غايات. و بالتالي في هذه الحالة فإن البحث عن حائل و مانع لوقوع الكارثة و ربما عن منقذ -أخذا بعين الاعتبار هامش الخطأ المؤدي لوقوعها- ليس إلا من بوادر التفكير السليم، الممزوج ببعض السريالية، لكنه يظل سليما في المجمل و مغريا بالانغماس فيه، الأمر الذي لم أستطع مقاومته، و ربما أني لم أحاول ذلك حتى قبل الانطلاق في سبر أغواره محاولة تجنب المنعطفات المفرطة في الخيال فقط لأصطدم و دون سابق إنذار بأكثر جبال الواقع البشري رسوخا و ثباتا، الملاك المرتشي، حارس الواقع و  المنفذ الخفي للخيال: الذاكرة.

إن الذاكرة فردية كانت أم جمعية (و إن كنا سنركز هنا على الذاكرة الجمعية) من أقوى محفزات التقدم. و لا أبالغ لو قلت أن الذاكرة الجمعية لمجموعة بشرية معينة قد تكون الحائل الوحيد بينها و بين الاستسلام، مهما بدت (هذه الذاكرة)  هجينا غير محدد الملامح من وقائع و أحداث و آمال و أوهام، و سواء أكانت في المجمل تتبختر في قمم المجدد أم تتعثر في وحل الوحشية و الظلام.
إن أكثر ما يخيفني ليس أن يطور الذكاء الاصطناعي وعيا ذاتيا( و إن كان هذا صعبا و مستبعد الحدوث)بل أن يتجرد البشر من ذاكرتهم الجمعية، و هذا وارد الحدوث إلى حد بعيد، ذلك أن العالم متجه آنيا إلى تطبيع و تعميم نموذج موحد من البشرية مدعيا أن هذا أكثر سبل الاتحاد و السلم العالميين أمنا، بينما هو في الحقيقة السبيل الأوحد الذي لا رجعة فيه إلى الدمار.
إن تعميم فكرة النظام العالمي الجديد هذا، و إن كان غير قادر على دفن الذاكرة الجمعية المجتمعية بشكل كلي و أبدي، إلا أنه قد أثبت بالفعل قدرته على طمسها و إهمالها. و الاستمرار في هذا النهج سيخلق جيلا ممسوخ الهوية و الذي سيصبح مع توالي السنين جائعا متعطشا لأي هوية جاهزة معلبة كيفما كانت و أيما كانت المنزلة التي تمنحه إياها. فالإنسان بحد ذاته باحث دؤوب عن التميز و الفردانية، و حرمانه منهما في إطار هوية سطحية موحدة و مستنسخة  سيولد ضغطا هائلا عليه و ينتج بيئة خصبة للخلافات المادية و الاقتصادية( فالمال آنذاك سيضحي السبيل الوحيد المتاح للاختلاف و التميز)و التي لن تبقي على شيء أخضرا كان أم يابسا في حال اندلاعها. و لهذا فإنه من الضروري التنبيه غلى ان الاختلاف و التنوع يبقيان –شئنا أم أبينا- الدافع الأعظم للسعي طلبا للسلام و التعايش، إذ –في هذه الحالة- يسعى كل كيان متوسلا لنفسه مكانا في العالم و مكانة بين أقرانه من الكيانات المتعددة و يجتهد في الحفاظ على هذه المكانة بحيث تضحي الحروب أمرا غير مرغوب فيه و يضحي السلام ضرورة. و إني لا أستطيع تخيل زمن تتمكن فيه السيطرة للذكاء الاصطناعي و تتيسر له غير زمن النظام العالمي الجديد، حيث أزمة الهوية تجر وراءها أذيال الدمار و الخراب، حيث البشر(أسياده و صانعي وعيه ) مجردون من وعيهم و علمهم بذواتهم، حيث هم مجرد آنية فارغة- يشابه بعضها بعضا- متراصة هنا و مبعثرة هناك، تتقاتل على المنافع اللحظية دونا عن أي قيمة إنسانية بعيدة المدى و المنفعة، مجرد كائنات هلامية طينية متلهفة لأي قالب يحتويها و قانعة بأي هيئة أو صفة تمنح لها.
هذا ما يقودنا إلى خلاصة مفادها أنه لا طريق للآلات إلى عرش قيادة العالم إلا بتنحي البشر من تلقاء نفسهم عنه، ما يجعلني لا أخشى علينا من الذكاء الاصطناعي و إنما من النهج الغبي المضلل الذي يسير عليه منتجوه المتحكمين في التكنولوجيا و الإعلام.

داخل علبة زجاجية... أنا ، نفسي و ذاتي

إن الذاكرة بلا شك من النعم الملعونة، من الأشياء التي تفقد متعتها و تلقائيتها حالما تعيها و تدرك ألاعيبها، فتتحول محض عذاب مطلق، و إني قطعا لست فخورة بهذا الاستنتاج بما أن عملية التوصل إليه لم تكن تلك العملية المجيدة التي قد تخطر على بالك أو تتخيلها. فقبل بضعة أشهر مضت لم أكن أتخيل إلى أي حد قد تتحول الذاكرة هذه وحشا ساديا مجردا من مظاهر الرحمة جميعها، بل في الحقيقة فإني لطالما ارتأيتها ملاك الرحمة القادر على انقاذ البشرية، و الذي بفقدانه تفقد البشرية آخر نفحات المعنى و الهدف الوجودي ليغدو الوجود من عدمه سواء.
إنها(الذاكرة) ليست علبة مفاجآت "باربي" لا تحتوي إلا المسرات، و قطعا ليست صندوق "باندورا" لا شؤم من امتلاكه و لكن كل الشؤم و الشر من فتحه، قطعا لم أزعم ذلك من قبل و لم أكن على ذلك الحد من السريالية قط، إنما اعتبرتها منفذ السعادة في الأيام الحالكة الظلمة و ارتأيتها منبع الحكمة المستمدة من الألم، فهي إنما تبعث السعادة مواساة و تعزية و تستدعي الألم تذكيرا بحكمه و تحذيرا من تكرار أسبابه، و لذلك فهي دائما حاضرة و فاعلة في ذواتنا سواء أحببنا فعلها ذلك لحظيا أم كرهناه، و قطعا فلا وجود لشيء كالفراغ بوجود الذاكرة و لا مكان لمعاناة عبثية فارغة في حضورها، وبناء عليه فهي صمام الأمان و الأمل الذي يفترض التشبث به و هي مفتاح الإصلاح لكل المشاكل و الاضطرابات أو لمعظمها بتعبير أصح،  أو على الأقل هكذا ظننت و كم كنت مخطئة.
إنني قطعا لم أفقد الذاكرة، لم أهملها و لم أتجاهلها، و نعم، لقد كنت في كامل وعيي، إنني حتما أتذكر كل شيء، كل الأوقات الرائعة، كل النجاحات الصغيرة التي زينت و تزين حياتي العشرينية و جميع نشوات الانتصارات التافهة التي قد تكون أسعدتني ذات لحظة، كل اللحظات التعيسة، المؤلمة، الأشياء التي بدت ذات يوم شرا فاقع اللون ليتضح بعد ذلك كل الخير من خلفها و جراءها، كل الامتنان الذي أكنه للخالق و للعالم و للحياة و لازلت أكنه، و قطعا كل الدهشة و السرور للطريقة التي سرت بها أموري حتى الأن و إن كانت قد خرجت عن سيطرتي أحيانا كثيرة لكنني قطعا إن كنت قد مانعت أنداك و ملأت الدنيا نواحا فإنني لا أمانع الآن. لقد كان كل هذا و ذاك نصب عيناي و كأنه حدث بالأمس القريب، كل لحظة بدت قريبة بشكل لا يصدق و في ذات الوقت بعيدة بشكل مخيف و كأنني عشتها في زمنين مختلفين، مرة قبل بضع ساعات و مرة قبل ألفي سنة. إنني على علم أن ما أتذكره إنما هو شريط حياتي و لكنه لم يبدو كذلك، إنني أتذكر نفسي و أعلم يقينا من أنا لكنني لم أكن أنا، إنني أبدو نفسي و لكن نفسي و هي تطالع حياة نفسي تؤكد لي صارخة أنها ليست نفسي، لقد كنت كمن يناظر ذاته من خلف جدران علبة زجاجية، فلا أدري إن كنت داخل العلبة أم خارجها  لكنني أعي وجود العلبة و لا أرى ذاتي إلا عبرها و من خلفها.
لقد كنت حية لكنني أحيانا كنت أعجز عن التنفس، تلك العملية اللاإرادية و اللاواعية كانت تحتاج جهدا كبيرا لم أستحسنه و لكنني لم أستطع مقاومة بذله، و كأنني كنت تحت الماء أو تحت الأرض، لم تكن حياتي قط سيئة أنداك و لم تعرف للحزن طريقا و بالطبع لم تكن مدهشة لامعة أيضا، لقد كانت روتينية كحياة كل طالب جامعي في زمن الوباء، واجبات و مشاريع و مخططات للمستقبل الذي يبدو واعدا ببعض من الجهد و الصبر، و لقد كنت سعيدة، آمنة، مستقرة، و الجميع كان يعرف ذلك وقادرا على استنتاجه بسهولة إلا أنا.
لقد كنت سعيدة لكنني لست كذلك، إنني أعلم أنني سعيدة لكنني لا أستطيع الاتصال بذلك الشعور الداخلي بالسعادة، إنني آمنة لكنني أشعر و كأن ماضيا بعيدا يطاردني، ماضيا يقارب مئات السنين، ثأرا ثقيلا ينتظر الانقضاض علي، لكنني كنت آمنة و تعابير وجهي بدت و كأنها تدرك تلك الحقيقة و تخفيها عني أو تتعمد تهريبها بعيدا عن متناولي لسبب أجهله، صحيح، حتى تعابير وجهي كانت تخونني، تظهر السعادة لأشيائي المفضلة و تفرح بالأخبار المفرحة و تضحك على النكات و قصص السخرية و تنظر برغبة للأشياء التي أرغبها و بمقت للأشياء المزعجة، لكنني لم اكن أنا و لم أستطع أو بالأحرى لم أعرف كيف أخبر الجميع أنني سجينة داخل جسد و روح يبدوان ملكي لكنهما ليسا  كذلك، كيف أخبرهم أنني عشت الأبدية و أنني لا أتذكر منها سوى هذه الحياة، كيف اخبرهم أنني أطارد نفسي داخل نفسي، كيف عساي أخبرهم أنني أعلم و أني لا أعلم، كيف أخبرهم أنني أتمزق و تتلاشى قطعي و لا يبقى منها إلا ما مضى، و ما مضى كان أنا و لكنه لم يعد كذلك.

ثم ماذا بعد....الحياة بعين ثالثة

الأوراق المبعثرة هنا و هنالك و كل تلك الأقلام التي لم يكتب لها أن تختبر نشوة الكتابة الحقة، و لم تخط طيلة فتر حياتها سوى بضع حروف تلتها خربشات احتجاج عديمة النفع على الورق، ثم تطوى تلك الأوراق و تتاح لها بعض من لحظات الاحتضار المؤلمة قبل أن ترتقي روحها و تنتهي إلى مثواها الأخير في سلة المهملات، و تعود الأقلام العذراء إلى سجنها بعد بضع لحظات نشوة عابرة منتظرة بفارغ الصبر اليوم الذي سيتاح لها احتضان الورق من جديد. و دورة حياة الكتب في هذه الفترة و مع هذه النسخة من ذاتي لم تكن خيرا و لا أفضل من نظيرتها، إذ أضحى فمن الطبيعي أن أبعثر كتابا و اثنين- من الكتب التي كنت و لازلت أتحرق شوقا لقراءتها- في الأنحاء دون مبالاة، و قد أتناول بضع صفحات من أحدهما ثم أرميه بعيدا مجددا لعجزي عن قراءته على الرغم من رغبتي الملحة في ذلك، لقد اعتزلت الرسم و الصباغة و كل أعمالي إما لا منتهية و إما يكتسها ذاك اللون الصدئ الذي بات يكتسي و يحوط روحي، مجردة من الدفء، باردة، فارغة، و مع ذلك أشعر بالامتنان لتلك اللحظات التي أجبرت فيها الفرشاة على مطاوعة الفوضى، إذ كانت ملاذي الوحيد للاستراحة من المطاردة التي اتخذتني مسرحا و مجرمة و ضحية.

إن المعاناة المستمرة المرفقة بذاكرة واضحة وضوح الشمس ساعة الضحى، ضائعة ضياع مدينة "اطلنطس" و بعيدة المنال بعد زحل عن الأرض، تجعل من النفس باردة، معتكفة ثم شرسة، و إني قد بالغت إلى  مرحلة أن أردت للعالم كله المعاناة الأبدية و افترضتها فيه، و ساورني فضول عجيب عما يخفيه كل فرد وراء تعابيره من معاناة افترضتها فيه دون داع.
إن الذاكرة لا تستطيع إنقاذنا، إنها إن حضرت في ساعات المعاناة  ضاعفتها، إنها في مثل هذه الأوقات كالزيت للنار، لا تذر شرا لا تطرحه و لا مأساة لا تقترحها أو ألما لا تستدعيه. فإن لم تقترن بالإرادة و الضمير انعدمت قيمتها، و اتعكس مفعولها، و لا لوم عليها و لا يعيبها أن تكون مهدينا المنتظر ثم تتحول دجالا، لكن يعيبنا الاستسلام لذلك بعد أن علمنا أن أعتى الشياطين أولئك الذين كانوا ملائكة ذات يوم و أطهر الملائكة أولئك الذين ألحدوا عن سبيل الشر ذات يوم.

 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مراجعة رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد".

مذكرات كاتب بجتر الموت: عندما يعبث بالموت العقلاء

مذكرات كاتب يجتر الموت: آخر ملوك السماء