عن علاقة القهوة بالشر
المتأمل في مشهد مسحوق القهوة و هو يسبغ الظلمة على
المياه الدافئة سيجده عظيما و ملهما لا شك، بل و فيه من الاسقاطات و العبر الكثير
مما يعجب له العقل.
ما من عاقل يسكب مسحوق القهوة في الكوب حبة حبة و إنما
تسكب إجمالا مرة واحدة ثم يحدث أن يتسلل إلى قاع الكوب أول الأمر عن طريق سحابة
مظلمة قليلة الكثافة تتوسع شيئا فشيئا إلى أن تغدو المياه حالكة السواد لا تميز
سطحها من عمقها، و هكذا نكون قد حصلنا على قهوة سريعة التحضير مركزة غامقة تزداد
لذتها و نشوة احتسائها بإضافة قليل من مسحوق السكر.
هكذا و على نفس الخطوات تسير الظلمة و الشر البشري.
هنالك تعبير أحسبه منتشرا بين أخصائي علم الاجتماع: "خطوات الشيطان" و
يقصد به التدرج في التغير و التدريج في التغيير. فلا أحد يولد شريرا و الظلمة لا
تستحوذ على أحد بين ليلة و ضحاها.
إن التدرج هو الذي يولد الوحوش داخلنا، و لما كان توالي الآثام الصغيرة يولد الألم و العذاب في
نفوسنا كان طبيعيا أن نبررها(تلك الآثام) علنا نتخلص من عبء المعاناة. و فقط بعد
هذه الخطوة يبدأ الشيطان بالزحف و التوغل في ذواتنا و تزداد فظائعنا شناعة بمرور الأيام
منتقلة من آثام بسيطة صغيرة التأثير و الأثر إلى أشنع الخطايا. و لا عجب في ذلك،
فالتوحش مستويات متتالية متتابعة تماما كالاختبارات أو الألعاب الإلكترونية و
مادام قد تم تجاوز المستوى السابق أو تخطيه و تجاهله بالتبرير، فمن البديهي الانتقال إلى المستوى اللاحق له.
و الحقيقة أن هذا قد لا يكون صحيحا بالمطلق. إني أرى
الشر متأصلا داخل الكائنات البشرية لكنه ليس متغلغلا فيها بالضرورة و لا يصعب حق
الصعوبة استئصاله، إني أرى الشر في البشر أقرب إلى طبقة الظلمة الحالكة السواد على
مستوى سطح المياه الدافئة في كوب القهوة قبل تغلغلها في المياه. و لا يفعل التبرير
شيئا من خلق الشر و إنما تأثيره يتلخص في ايقاظه. و على منوال تغلغل سحب القهوة
داخل الكوب يتغلغل الشر داخلنا إلى أن يستحوذ علينا فلا نعود مدركين لما عداه و
نحسبه الحالة الأصل التي ليس قبلها شيء و لن يكون بعدها شيئا.
و لعله ليس من الصعب ملاحظة تأصل الشر في البشر،
فالمكتبات تخمة بمئات الكتب عن هكذا موضوع و لو أنه لا طاقة لك بقراءة أي منها
يمكنك الاطلاع على عشرات الاختبارات التي كان الأطفال في سن مبكرة مواضيعها و
عينات تحاربها، لتكتشف أننا إنما نولد بأجنحة الملائكة و أنياب الشيطان معا و كل
يختار فيما بعد قدوته و قائد دربه.
و الحقيقة أننا ما كنا لنستطيع النجاة في هذا العالم
لدقيقتين كاملتين لو ما كنا أشرارا، إن غريزة البقاء تحتم علينا بطريقة أو بأخرى
أن نكشف عن جانبنا المظلم بطرق مختلفة و أفضل الطرق تلك التي نفوز بها دون أن نضطر
إلى تحمل عواقب أو نتائج معينة.
إن الشر قهوة العالم و التبرير سكرها.
Commentaires
Enregistrer un commentaire