تسعون فارسة و أميرة
لا أدري بالضبط منذ متى بدأ الأمر، لكنني
أعلم أنه استمر حتى صباح هذا اليوم، فقبل ساعة أو ما يقارب الساعة كنت لا أزال
أفكر ما إذا كنت سأكتب أم لا ..لفترة ليست بالوجيزة و لا بالطويلة عجزت عن الكتابة ، عجزت كليا عن ترجمة أية
أفكار تدور في رأسي إلى كلمات و جمل مفيدة فاعتزلت الكتابة على أمل أن أعود بطاقة أكثر
و حماس أعظم. و طيلة مدة اعتزالي لم استطع أن أكف عن التفكير في اليوم الذي سأكتب
فيه مجددا تماما كما لم استطع أن أكف عن التفكير في كل تلك الفوضى الشنعاء داخل
رأسي و في تلك الحروب الرعناء التي تشنها أفكاري على بعضها البعض و كل واحدة منها
تحاول أن تحظى بالأولوية لذاتها و تنفرد بها . و طيلة هذه المدة لم تفارقني أقلامي
و لا مجموعة أوراقي التي كانت تتأمل عودتها و تَأمُلها و هي مموضعة على مقربة من
سريري لتبقيني في أتم الجاهزية للكتابة
مجددا متى ما شئت ذلك و متى ما انتهيت من استراحتي التي تبدى لي شيئا فشيئا أنها
لم تكن استراحة بقدر ما كانت أقرب إلى رحلة عمل جحيمية لتجربة و ربما تقييم أحد
أكثر الكوكتيلات شهرة هناك ، ذلك المزيج المركب و المربك من الارتباك و الملل و
الفراغ يزينه خوف مجهول الأسباب من تلمس الأقلام و من تقليب الأوراق.
لم يكن من الصعب إدراك ما أمر به و لكن تقبله كان أمرا آخر مختلفا تماما ، و محاربة ذلك الشعور بالملل و الفراغ لم يكن هينا أبدا ، كان الأمر أقرب إلى امتلاك مجموعة تضم آلاف المفاتيح فقط واحد منها قادر على فتح بوابة إلى ما لا نهاية له من العوالم و بدل البحث عن المفتاح الصحيح قررت الرقص أمام البوابة ..نعم ، لقد حاولت الهرب مرارا و تكرارا من الفوضى التي أدرك أنها تكتسح ذهني ، حاولت التوقف عن التفكير، حاولت القيام بكل ما يندرج ضمن قائمتي للأشياء التافهة على أمل أن لا أفكر مجددا ، بمعنى آخر أن لا أفكر كثيرا ، لكن ذلك لم يفلح ، ففي كل صورة و في كل مقطع مصور كنت أجد إلهاما ، و في كل مجموعة من الجمل كنت أجد مصدرا جديدا لفكرة أو أجد الفكرة بحد ذاتها، و ما ظننت أنه سيكون إلهاء ذاتيا بدا أقرب إلى تعذيب ذاتي ..فكرت في الانشغال بالموسيقى متناسية أنها لطالما كانت مصدر إلهامي الأعظم – خطأ قاتل آخر، عبقرية أنا ، أولست كذلك- و أخيرا تحسست أوراقي ، ألقيت عليها تحية كئيبة و ردتها لي بمثلها ، بدت و كأنها تعاني بين يداي ، أحسست بها تتوسل الحبر الأسود ، تتوسل أن تلامسها الحروف مجددا ، لكنني لم أكن قادرة بعد على منحها تلك الحميمية ، و كل ما كان بإمكاني تقديمه لها كان بعضا من دموع قلم الرصاص و القليل من مساحيق تجميل الأقلام الملونة المبتذلة ، خططت خطا بعد الآخر، خلقت موجة تلو الأخرى و حركات يداي تسارع إيقاع أفكاري التي تخيلتها تتجاوز حدود ذهني و تغادر عقلي أكثر من مرة ، توقفت فور أن سمعت صرخة ورقتي و هي تطلب النجدة ، حدقت بها فبدت مزركشة و مخططة بالكامل ، ممتلئة إلى أخر سنتيمتر فيها ، "هيا أيها الباكية أريني الفراغ الذي أبدعته ، لا تكوني متذمرة " أكاد أقسم أنني شعرت بنظراتها تخترقني حالما اخترقت جملتي أذناها ، تجاهلت أنينها المدوي و حملقت فيها ، يا إلهي ما هذا ؟ هل اصبحت مبتذلة أنا أيضا ؟ هل هذا هو الفراغ الذي لطالما افتتنت به ؟ منذ متى أصبح عملي مجرد تقليد للواقع الرخيص المبتذل ، منذ متى أصبح القرمزي المثير للاشمئزاز يلمع بفخر و افتخار في عملي ، لقد فقدت الشعور بالبهجة و الرضى أيضا الآن ، جزء آخر مني يتلاشى ، جزء آخر مني يستبدل بأحد أبطال المثالية المجتمعية التراجيدية ، فقدت رفيقة و تسببت في معاناة أخرى ، عسى أن تخلصهما النيران من معاناتهما ، فلترقدا في سلام.....
أحد شرارات نيران هذه الجحيم اللعين تسمى المزاج ، مصطلح كاف لاستدعاء مشاعر النفور و تحفيز طقوس بعث اليأس.. المزاج كان جلادي الذي أرسله الشيطان لإخضاعي، مزاجي لم يكن يوما مستقرا، فعموما لست من النوع الذي يحافظ على المشاعر السلبية و يحتضنها لفترة طويلة، غالبا ما كنت مقتنعة أن الغضب و اليأس و الاحباط و الخيبة فراشات لا يمكن تجنبها و الهرب منها بقدر ما نعجز عن الاختباء ،لا يمكنننا منعها من ملامستنا و لا يمكننا منع أنفسنا من الاحتكاك بها ، لكننا و بكل تأكيد يمكننا منعها من التهامنا و استهلاكنا في كل مرة تقرر زيارتنا ، و لذا غالبا ما أحرص على أن تتلاشى لدي المشاعر السلبية بأسرع وقت ممكن حالما تزول فترتها المنطقية و تنتهي ، و إن عجزت عن تدميرها احتفلت بها و أقمت وليمة على شرفها و غذيتها بالخطط و حفزتها بالتقبل فترحل خائبة الظن من تلقاء نفسها و هي تعلم أنها لم تحظى بشيء من روحي... ، و لكن منذ أن اعتزلت الكتابة ، منذ أن فقد جيشي قائدين و الجنود يركضون في فوضى لا أعلم لها بداية و لا نهاية ، فقدت السيطرة غالبا ، فالآان ما عدت احتضن المشاعر الإيجابية و ما أحفل بالمشاعر السلبية ، إذ أنها كلاهما غدا مجرد حلقة غير منتهية غير معلومة الأسباب ، و أصبحت نفسي أقرب ما يكون إلى متنزه عام اقتحمه أطفال أمضوا حياتهم يجوبون الصحراء ، أنا الآن لم أعد أتوقع ما سيكون عليه مزاجي عند حدوث الأشياء ، لأنني ما عدت المسيطرة ...فيا جنود رحبوا بالقائد الأعلى الجديد ...رحبوا بالسيد "مزاج"....
إن
الترابط ليس أبدا أحد أولويات هذا النص ، فهو في النهاية ليس إلا محاولة شبه ناجحة
للخروج من سجن أجبرت نفسي على ولوجه و عجزت بعدها عن مغادرته ...كما كان متنفسا و
مهربا من حاكم المملكة الجديد ، متنفسا حيث اكتشفت الكثير من الأمور عن نفسي...
لكن هذا حديث آخر لوقت آخر، و فقط في حال ما إذا كنت تتساءل، فنعم، لقد فزت، فزت أخيرا،
فزت مجددا ...
Commentaires
Enregistrer un commentaire