تأملات (الجزء الأول): كيف تقتل كاتبا



صفقة مع الشيطان: النسخة الأبدية من الوعي


إن حالي و حال معظمنا مع العقل الواعي خاصتنا حال من كان له ظل حي ثمين عزيز على قلبه  يحميه من كل من تسول له نفسه أن يمثل له تهديدا و يتخلص ممن يتجرأ على مشاركته الهواء نفسه مخافة عليه من الاختناق دون أن يستطيع أن يدرك أنه إنما كان يخنق ظله هذا ببطء، فهو جلاده و قاتله و ليس لسواه يد في جرمه.  فقبل أن تصطدم أعيننا بأول شعاع ضوء و قبل أن تحرر الدنيا العامل البدئي لبدء حلقة صرخاتنا ، كان وعينا يعذب، يقص و يُقَولَب فترمى الشظايا التي خرجت عن القالب، ثم يتبرأ من ألوانه و يبيض لينصع بياضه  فيغدو فارغا، لقيطا، معدوم المضمون، أجوف الجوهر، ثم يأخذ من سجنه إلى معتقل يجري توسيعه من أجل أن يلائم مقاساتنا و تجري فيه الأشغال على قدم و ساق  لعله ينتهي قبيل أن نبدأ، فيقيد هنالك من أطرافه و ترسم عليه بالسكاكين أوامر الجلادين ثم تحرق الجروح لتخلد و تطلى بالأسود لتسود و تسيطر، ثم يُأتَى بأشلائه من مرماه بعد أن تكون قد لقيت صنوف العذاب و يخط عليه  بدمائه كل ما هو مخالف لما خط بالأسود لتحرق بعدها و هو ينظرها و يناظر ألمها الذي سرعان ما يخمد ليقيد الوعي و يغلق عليه إلى أن يفتح باب الحياة لنا فيلقى داخل نسيج أجسادنا المكون حديثا بهذا الوعي المقولب فيها و مع كل خطوة نتقدم بها في درب الحياة يفتح قفل من أقفال قيوده إلى أن نبلغ رشدنا فتكون قد فتحت جميعا و لا يبقى منها إلا قفل القيد الذي وسم به نفسه ما أن رأى معاناة أجزائه و مقتلها و مع الخلود الذي مني به هذا القيد نمنى بارتيابية و تطرف في الوقاية الذاتية، فنمضي في الدنيا نتجنب كل ما يخالف نقوش نصوصنا السوداء كما يتجنب مصاصو الدماء الشمس، نخشى أن نقرب الكتب التي تخالفنا و تغضبا التساؤلات بينما تخرجنا عن طورنا المجادلات و لا نستطيع إلا أن نشخصنها  و كأننا مستذئبين و كأنها البدر. و تمضي الأيام و تمر السنين و نحن نسبح في بركتنا النيلية و لا نتغذى إلا على ما يرضي وعينا المقولب و يدغدغ غرورنا، نتغذى لنغذي ما غذونا به فيعيشون في غير زمانهم و نتلاشى في وضح زماننا، ثم يأتي علينا يوم يفيق النهار بحثا عن بذوره الجديدة و الليل عن صناع أهوائه و حرفي بنائه الجدد فلا الأول يجد من يبنيه و لا الثاني يجد من يغنيه و يثريه، يترنحون هنا و هنالك و لا يجدون سوى نسخة من نسخة تنسخ نسخة و تغذيها بنسخة ممن نسخوا من نسخ وتدور تروس الحلقة اللانهائية هذه و لا يقربها صدى و لا يتَعرضها خلل، و كأي كائن أزلي أبدي لا يعرف لنفسه مخرجا مما هو  فيه، فويل لمن قال الزمان سيد الأطباء و خير المعالجين و ليته يعلم أن الزمان ذاك ما عالج يوما طبيعة أو غيرها و إنما يعالجها من يحاربونها في الزمان لا الزمان، أولئك الذين حرم عليه الاقتراب منهم، فما كان له أن يدرك حلا لمصيبته إلا أن يجد تاجر يشتري منه ما يحتاج أو يبتغي لنفسه جلادا يخلصه مما يكره، و بين هذا و ذاك يكمن الشيطان، فهو أخبث التجار و أقسى جلاد.

 

المحقق كونان.... لماذا يموت الكُتاب؟

أخبرني رجل حكيم ذات يوم ممطر و هو يرتشف من فنجان قهوته السوداء، بعدما أخبرته و قد بدا علي الانزعاج باحتمال موت "يوساكو كودو" و هو يحاول كشف جاسوس "المنظمة السوداء"، أن أكبر خطأ يقع فيه المخططون و المدبرون من الناس يكون إهمالهم إمكانية القبض عليهم، إنهم يتعاملون مع هذه الإمكانية كما نتعامل مع الموت الذي ندركه حتميا و نرى الناس أمام أعيننا يتساقطون بفعله واحدا تلو الآخر يوما بعد الآخر، و مع كل حالة وفاة نتفاجأ و نندهش من هذا الحدث المفاجئ و المخيف ثم نواصل قدما دون أدنى اكتراث. كذلك هم يضعون في الحسبان احتمال التوصل إليهم و يدركونه كل الإدراك لكنهم يهملونه و يمضون يحبكون القصة تلو القصة و الخطة تلو الأخرى و كأنهم باقون أبدا. إن عدم التعامل المباشر مع الخطر يجعل من المدبر مهملا و متناسيا لعظم هذا الخطر، فهو كالموت يتعوذون منه و يرونه لا يصيب إلا الغير و يستحيل أن يصيبهم أو على الأقل يصعب. و لو بلغ بهم الحدر و الوسواس مبلغا قد يشغلون بضع كاميرات مراقبة أو ينيمون تحت مخداتهم مسدسا يحرص أحلامهم إلى أن تنل إلى الواقع، لكنهم أبدا لا يتجهزون للمواجهة وجها لوجه و لا يريدون التجهز لهالا ينتوون ذلك، و لذلكم و مهما طال بهم المجد لابد أن يخسروا و يموتوا بعد أن تتهاوى قطع الشطرنج خاصتهم في الميدان واحدة تلو الأخرى، و إن لم يحدث أن تتهاوى، يحدث أن تتخاذل أو تتناسى لكن المخططين قلما ينتبهون لهذا. فهم يرون، من منظور هندستهم الأوضاع، البشر آلات يحركونها يمينا و شمالا، لكن البشر بشر، مهما كانوا دقيقين و موضوعيين و منصاعين، هم بشر، يترددون، يفكرون و يشعرون..

و الحقيقة أن رأي حكيمنا ليس بغريب عني، إنما هو نوع من الصور النمطية المتكررة عن الأشخاص خلف الكواليس. و كثيرة هي النمطيات مثيلة هذه و التي بنيت على مزاعم خاطئة. إن هؤلاء الأشخاص ليسوا بالأنانية أو بالنرجسية التي تترآى لبعضنا( ليس النفي من حيث الحجم و إنما من حيث النوع)، و إن تلك الصورة الباردة المتجمدة التي نكونها عنهم نتاج تناسي واحد من أهم المبادئ الأساسية: أن الأتباع الميدانيين غالبا ما تتاح لهم فرص النجاة أحيانا كثيرة، ذلك أن مهاراتهم التنفيذية و الميدانية مطلوبة لخدمة غير أهداف و غير مبادئ، و بما أن الموت حافز قوي و فرصة ثانية في الحياة تكون أحيانا كل ما يحتاجه المرء للانصياع لكاتب جديد داخل قصة جديدة. و لكن المخططين، أولئك الذين يدبرون الحوادث لا تمنح لهم فرص ثانية، مطلقا. إذ أن تنفيذ خطة ما أو تمثيل مسرحية معدة قد يحتاج عدة محفزات: إيمان مؤقت، مال، منصب...لكن التخطيط و التدبير يتطلب إيمانا مطلقا بمبدأ العمل المخطط له و تكريسا للنفس و العقل، و أولئك الذين يمتلكون من هذه المقومات تصعب السيطرة عليهم و هم واعون كل الوعب بذلك. و هكذا فإن إهمالهم المفترض لحقيقة التوصل إليهم لا تنبع من قطع الشطرنج البشرية التي يبعثرونها هنا و هناك، و لا من منطلق بعدهم عن المواجهة المباشرة للخطر، إنما لأن الحياة و الموت ليست اللغة التي يتحدثونها، إنهم يتكلمون لغة أخرى تتيح الحياة حتى لو بعد الموت: لغة المعلومات.

"علي و على أعدائي"، المبدأ الذي يعمل به أولئك الذين يتخفون خلف الستار يحركون خيوط الدمى على المسرح و يحبكون قصصها، موجهين الجمهور أينما شاءوا كيفما شاءوا، آملين توجيه منافسيهم بنفس الطريقة و الكيفية. هم ليسوا غافلين عن إمكانية وقوع الستار و انكشافهم للعلن، إنما يحتفظون لأنفسهم بعرض قد يأتي على الأخضر و اليابس في حال عُرض. إن نهايتهم ليست هزيمة إلا إن شملتهم هم و فقط هم عندها تضحي عارا لا يجد أن يتركوا إليه وسيلة أو سبيلا. و أرى أن العالم حتى الآن لازال يعاني جراء انهيار الكثير من عروض هؤلاء. بل إن بعض هذه الانهيارات  قد مر عليها عشرات السنين و مازلنا ندفع ثمن تابعاتها، و مع كل انهيار جديد يشتغل مؤقت قنبلة جديدة.        

Commentaires

Enregistrer un commentaire

Posts les plus consultés de ce blog

مراجعة رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد".

مذكرات كاتب بجتر الموت: عندما يعبث بالموت العقلاء

مذكرات كاتب يجتر الموت: آخر ملوك السماء