قيل إن للسماء جلاد...
إنه لمن العار أن تموت و لم يحدث أن ألقيت يوما بالا لغروب الشمس، و إنه لمن الخزي أن تسأل عن الشمس لحظة غروبها فلا تجد ما تتفوه به عنها اللهم أنها قرص أحمر يتخذ البحر مرقدا و ملجأ كل مساء.
و إني لأتساءل لو كانت الشمس تلك تكرمنا قبيل انتحارها اليومي ببعض من المعادن النفسية أكان الناس ليغفلوا عنها بهذه الطريقة. و بعد تفكير دام بضع أجزاء من الثانية، أيقنت أنهم قطعا سيفعلون. و ربما أكرموها ببعض من الانتباه من حين لآخر و بجلوا لحظة غروبها تلك من يوم ليوم لكنهم قطعا لن يداوموا على ذلك التبجيل، فهم يتوقعون أنها ستغرب مجددا في اليوم الموالي، و ستطرح على مسرحها السماوي نفس المخلفات بنفس طريقة أمسها. و كما تعلمون فإن الكثير من العروض إذا دامت و استمرت كان لها مصيران لا يعقل لها أن تحيد عنهما، فإما أن تضحي أولوية من أولويات الحياة اليومية و إما أن تمسي حادثا عرضيا مع كل تكرار يضحي وجوده من عدمه سواء، و لا يتجاوز كونه مجرد علامة أخرى نستدل بها لكن لا نتأمل فيها.
و الحقيقة أننا نكون في غفلة من أمرنا لو حسبنا أن الغروب لهو حدث يتكرر منذ الأزل و إلى الأبد. و نكون قطعا أقرب إلى البلاهة لو ظننا أن لوحة الغروب تلك ترسمها ذات الشمس كل يوم بنفس مجموعة الألوان و على نفس الخامة.
إنها معركة دامية تلك التي تحدث في سمائنا الدنيا كل مساء، معركة تعود منها الشمس كل يوم بأسير جديد- بموهبة خالصة- يُسحَل على فضاء سمائنا تلك و هو واع بما ينتظره من مصير ما إن تبلغ سجانته مرقدها، فيرسم تفاصيل حربه على مسار نهايته ليس أملا في النجاة و لا حبا في الخلود المعنوي و لا طمعا في المجد أو محاولة بائسة لاستعادة الكبرياء، و إنما لغريزة في نفسه تدفعه إلى التوثيق بالطريقة الوحيدة التي يعرفها و يستطيعها، نفس الغريزة التي تدفعنا -نحن البشر- إلى الكتابة دون سبب أو داع بل لمجرد التوثيق.
و لا أدري إن كان للأمر علاقة بنوع ما من السادية المتأصلة فينا –نحن البشر- أم أنه غير ذلك، إلا أنني كمتأملة وفية للغروب و منتظرة يوميا لانتحار الشمس (و كلي أمل أن يكون عظيم الألم) اعتدت أن أجد أيما نشوة في تلك اللوحات و أدمنت على محاولة فك طلاسمها كل مساء. فتارة تتبدى سفن مظلمة سوداء مزرقة اللون تهاجم ما يبدو أقرب إلى تجمعات سكانية بيضاء، و تارة أخرى مخلوقات ناصعة البياض خفيفة الحركة تحمل على أكتافها نفس السفن المزرقة السواد فلا أستطيع أن أحدد إذا ما كان ذلك علامة انتصار أم أنه تبجيل للمستعمر و استعباد لهم من الدخيل. و قد تتبدى لنا مخلوقات صغيرة غامقة الزرقة تحمل شعلة نور أو نار و تنتشر على مجموعات مبعثرة في أرجاء السماء و لا أدري أهو طقس تعبد أو جنازة إذ هو قطعا لا يبدو طقس احتفال أو مرح. و لأن الشمس جلاد مجنون مهووس بالسيطرة فإنه يحدث أن لا تترك لأسيرها مجالا يجسد فيه قصته فتراه كل ما يستطيع فعله أن يخط مساره بدمائه فتغدو السماء أشبه بساحة معركة خاسرة ما كان فيها من منتصر إلا الموت نفسه. و يحدث أن تتمرد السماء فتأبى إلا أن تتلون بالأزرق دون سواه ثم تظهر عليها علامات خطوات نورانية صفراء و خلفها من بعيد كائنات بيضاء اللون ضئيلة الحجم تلونها من الخلف ذات الهالة الضوئية الصفراء فيتبادر إلى ذهني تساؤل عما إذا كانت غنيمة الشمس هذه المرة أميرا من الأمراء أم أنه مؤمن وفي من المؤمنين أم تراه ملاكا حارسا ، ثم لماذا عساها تلك الكائنات تقف على تلك المسافة و لا تجرؤ على الاقتراب، أتراها قدمت الأسير هذا أضحية للشمس عن رضى أم تراها مهزومة خائبة تخشى على ما تبقى من أفرادها مصيرا مشابها يلحق بها.
ثم إنه و بعد ذلك الكم المهول من التجارب الممتعة مع فن مداده دماء المحاربين من الأسرى و حافزه قرص مضيء متحجر القلب ملتهب الشر فإني أتساءل ما إن كانت الدماء التي تلون البحر في مشهد الانتحار الختامي دماء الشمس أم دماء أسيرها، أتراها الشمس كطائر الفينق لا تنزف دما و إنما تخلف رمادا و منه تعود إلى الحياة و بهذا تكون الأصباغ التي تبتلى بها البحار كل مغرب دماء ضحية مغلوب على أمرها، بل و قبل ذلك أتراها حقا تنتحر على مشارف البحر أم تتخذ أعماقه مسكنا لها و ملاذا تتغدى فيه على أسيرها و تستنزف منه ما يلزمها من قوى. أيعقل أنها مخيرة في دورة الحياة هذه أم أنها كغيرها من الوحوش تسيرها و تقودها الغريزة و اللذة و بذلك تحقق ما قيل في أحد الاقتباسات السينمائية عن أمير الليل "دراكولا": "الوحوش يتوقع منها الالتزام بالقواعد لا فهمها".
ختاما، فإننا لو أردنا تشبيها نموذجيا لسماء الغروب لكان تشبيهها بالبصمة الوحيد الذي يوفيها حقها كاملا. فكما أن البصمات البشرية تختلف من فرد إلى آخر و لا تتكرر نفس البصمة مرتين لدى فردين مختلفين فإن سماء الغروب بصمة اليوم التي لا تتكرر بنفس الطريقة مرتين في يومين مختلفين فلا تهملوا تأملها و تذكروا أن منظرا بتلك الروعة لربما قد استوجب كثيرا من الدم و الألم، و أن الشمس مخلوق كغيرها من المخلوقات قد يأتي عليها يوم لا تستطيع فيها العودة فلا تدع سنواتك تغرب قبل أن تشهد على غروبها
Commentaires
Enregistrer un commentaire