عن ماذا أتحدث عندما أتحدث عن الجحيم

 

كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها و أقلها احتمالا.. كانت ثلاثة أيام هبت فيها رياح عاتية بدت لي و كأنها هربت من صحراء جرداء ثم ضلت طريقها فاهتدت إلى مدينتنا بنفس الطريقة التي اهتدى بها "كولومبوس" إلى الأمريكيتين و لكم كان خوفي عظيما من أن يفعل بنا ما فعل بالسكان الأصليين، و قد استفحل هذا التوجس و استبد خاصة بعد أن بعد أن اتخذت الرياح تلك موقف المتطرفين من حركة الكوكب الأخضر، إذ أخذت تجول الأرض ذهابا و إيابا تنظفها و تعيد ما فيها من قاذورات إلى حيث تنتمي، إلى جحور من رماها. و طبعا و لأنها كريمة بطبعها (الرياح) لم يفتها أن تجاملهم بكثير من الغبار المجاني مما أوجب غلق المنافذ عليها من أبواب و نوافذ لتستحيل بيوتنا إلى نسخة مقلدة من أنفاق معتقل غوانتايامو.

 

كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها.. ها هي ذي الأحوال تتغير من جديد، أحوال الرياح على الأقل، يبدو أنها قد فرغت من تنظيف الأرض و استَحَت أن تبقى كسولة عاطلة عن العمل فهرعت إلى الجحيم تهدف تنظيفه كذلك و لعلها جعلت له مخارج تهوية أيضا على الأرض و إلا فماذا كانت تلك الرياح الساخنة التي تلفحك حالما تخرج من جحرك، و ماذا كانت شظايا الغبار تلك التي تشعرك بنفادها إلى روحك و كأنها تحاول الاستحواذ عليها، و كأنها تحاول أن تغلق مسامك جميعا لتحولك إلى سخان ذاتي ترتفع حرارته كلما تقدم في أيامه و ببطء تطبخ نهايته ثم ينفجر انفجارا يليق بما استغرقته التحضيرات له من وقت و جهد، و قد لا ينفجر و يستمر في الاحتراق الذاتي أبد الدهر، ربما يغدو بذلك ترسا من تروس آلات الجحيم و مرقدا لنيرانها إلى حين.

 

كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها.. كان اليوم الأول قد انتصف بالفعل و يبدو أن الشمس حدث أن غارت من كل المتعة التي تحظى بها الرياح و كل الأنظار المسلطة عليها  فقررت أن تنضم للعبة فتحظى بحصتها من المتعة متوسلة في ذلك بألاعيبها الملتوية السادية كالعادة.

كان اليوم الأول قد تجاوز منتصفه عندما قررت الشمس أن تختبئ فجأة و دون مقدمات، فاتخذت لها السحاب ستارا و جعلت السماء تكتسي باللون الرمادي المزرق معظم ما تبقى من اليوم. و هكذا أغرى غياب ضوء الشمس و الرياح دائبة النشاط بعض الوطاويط البشرية بالخروج أملا في نزهة تثلج الصدور، في قليل من الأوكسجين البكر الوليد و بعض من شعور الحرية المنعش و التحرر من السجن الذي غدته جحورهم تلك، و ما هي إلا دقائق و بضع خطوات يخطوها هؤلاء حتى يفطنوا إلى الفخ الذي نصب لهم  و إلى المقلب الذي وقعوا ضحية له فتعلو وجوههم نظرة غضب فخيبة أمل فتعبير بلاهة واضح للعيان. لقد كانت الشمس هنالك تعد جحيمها الخاص للحمقى ممن ظنوا أنهم تخلصوا لبعض الوقت من سطوتها على النهار، منيرة كانت لكن حارقة، مصرة على الأذى كانت، سادية كانت قد أقسمت على أن لا تترك من يقع تحت خيوط أشعتها إلا بعد أن تَسمَه ببعض من تذكاراتها المزعجة التي سترافقه حتما لساعات مقبلة أو أيام.

 

كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها.. كان يوما عصيبا، ثاني أيام المنافسة الهزلية بين الرياح و الشمس، أتراهما يتنافسان على لقب الأكثر شرا و سادية. و يشاء الواحد منا أن يصرخ فيهما أن المنافسات في هكذا أمور خير لها و لنا أن تتم في الجحيم أمام حكام أصحاب خبرة من شياطين الإنس و الجن و لتقع ويلاتها على من كان أحق بمنزلته في سعير جهنم لا على الأحياء من سكان الأرض الذين حقت لهم بل و كفلت لهم حرية التكفير و الرغبة فيه و السعي له. لكن ماذا عسى بشريا ضعيفا يجني من صراخه في وجه مخلوقات عظيمة القوى كهذه اللهم لحظات رضا مؤقت غالبا ما سيدفع ثمنها أضعافا مضاعفة في اللاحق من حياته.

 

كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها.. كان يوما عصيبا، ثاني أيام المنافسة الهزلية بين الرياح و الشمس، تستيقظ (و في حال كنت مخلوقا ليليا، تنتقل من طور الليل إلى طور النهار) مفعما بالأمل، لعله اليوم المنشود الذي تقل فيه حدة المنافسة الهوجاء تلك، ربما توصلا إلى تسوية في لحظة من لحظات الأمس بينما العالم غارق في النوم، لكن إشراقة الأمل هذه لا تدوم طويلا فبمجرد أن تكمل صحوك و تغدو متيقظا كل التيقظ لليوم الطويل (الروتيني غالبا) الذي ينتظرك ستجدها تتبخر عدما حالما تلقي نظرة على حلبة النزال في الخارج و ما أضحت و لازالت عليه من حال. كيف عساه الأمل يشرق إن كانت الشمس نفسها ما عادت تشرق، و كيف تبلغ بك الوقاحة أن تحسب أنه لشيء ما أن يشرق عداها. أما تعلمت بعد الدرس الأزلي عن سطوة الشمس و سيطرتها.. أما تعلمت ..

لقد كان يوما طويلا، طويلا للغاية دون مبالغة حرفية أو مجازية، لكنها مر سريعا سرعة الرياح نفسها، و كلا، هذا ليس تناقضا. لقد مر بسرعة نسبيا على الأقل مقارنة بسابقه. و بمقاييس الزمن الشعوري المتعارف عليها ستشعر أنه إنما كان فاصلا قصيرا لا أكثر. لكن حالما يسدل الليل ستاره و ترتمي على أريكتك و تعتدل في جلستك المريحة المعتادة سيتبادر إلى ذهنك كم كان اليوم طويلا عصيبا، مستهلكا حد الاستنزاف، قصيرا حسبته لكن طويلا تتذكره في أعمق ثنايا نفسك، حربيا كان، معركة بعد الأخرى. ضائعا في تلاحق المعارك و زحامها كنتَ بينما أضحت جداول نتائجها و حسابات النصر و الهزيمة ترفا لا وقت له، النجاة ثم النجاة كل ما يهم. لاحقا و بطريقة أو بأخرى ستفطن شيئا فشيئا إلى تلك الجراح الغائرة التي ظفرت بك، غير مرئية كانت أقرب إلى كونها نفسية منها إلى جسدية لكنك ستشعر بها كما لو كانت مطبوعة على جسدك قادرا على عدها، ستدرك كم هي عميقة و مؤلمة، ستحس بنبضات قلبك تتسارع ثم تتذكر أنها ما تسارعت للتو و إنما كانت طوال اليوم على هذا الحال، ستحسب قلبك يحاول الهرب من قفصك الصدري بينما أنت عالق في اللامكان -بين حالة المقاومة الشديد و الاستسلام اللامشروط- يستحوذ عليك ألم مجهول المصدر و الطبيعة معززا شعور قويا بالاختناق.

سجينٌ أنت بين الأبعاد، بُعدٌ بَعدَ بُعد، و كل بعد يتداخل مع سابقه كما يتداخل مع لاحقه، سجين جحرك كنت، سجين جسدك غدوت الآن..

 

كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها.. تخيل معي أن تستيقظ صباحا فتتجه إلى أقرب منفذ على الخارج تتفقد ما آلت إليه الأوضاع، يرافقك بصيص الأمل الذي استبقيته -بعد أن نفذ معظم رصيدك منه نتيجة الخيبات الماضية- فتجد السماء رمادية الاصفرار و الأرض تشاركها ذات الرداء المصفر الرمادي الذي يكون أعدل تشبيه له هو اللون الذي تسبغه هوليود على اللقطات التي تتخذ من دولة المكسيك موضوعا و مكانا لها. رباه، على ماذا عساها الشمس تكون قد تغذت لتتقيأ لنا هذا الوضع.

إلى المطبخ تتجه بخطوات حثيثة و طبعا لا داعي لذكر مصير ما كان من بقايا الأمل، إلى إفطار شهي حسبت نفسك تحتاج و أغلب الظن أنك قد تفننت في إعداده و هويت به بعد ذلك إلى أقرب مائدة متهيأ لالتهامه فقط لتكتشف أنه ما عادت لديك شهية له و ما كنت آكلا منه إلا على مضض رافضا أن يضيع جهدك عبثا و واضعا ضرورة تجنب الإسراف و الإسفاف نصب عينيك.

 

لقد كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها.. لو أن لي أن أقول أنه اليوم الذي فتح فيه الجحيم كل بواباته على الأرض لقلت.

ماذا تفعل عندما تكتسي المدن بلون النار..؟ تتربع في جلستك مقابل نافذة من النوافذ تتأمل الجحيم مترامي الأطراف حد الأفق و ما بعده، تستسلم لشعور الاختناق الذي يستبد بك و تكف عن التساؤل عن السبب الذي يجعل عقلك غير قادر على تسيير عملية تنفس عميق –قام بها عددا لا يحصى من المرات- على الرغم من حاجتك الماسة إليها.

بالطبع هنالك الكثير من الأمور و الأنشطة التي يتبادر إلى ذهنك إلى أي مدى تريد القيام بها بل يجب عليك القيام بها وجوب ملاحقة النهار على الليل، إلا أن هذا الإحساس المجهول السبب بالعجز يجبرك على التراجع عن نوايا كهذه، و كأنما هنالك من يحوطك بعظيم القيود و الأغلال أمام النافذة تلك مرغما إياك على متابعة التطورات في الخلفية النارية هنالك في الخارج. و لو حدث أن كنت من المحظوظين الذين استطاعوا التنصل من تلك القيود ستجد أن كل شيء فقد نكهته فجأة، ستجد أن كل نشاط أردت القيام به ما عاد يترسم لك ممتعا كما اعتاد و سيستفحل شعور الاختناق ممزوجا بالتوتر، ستجد نفسك تنتوي نشاطات تذكر ممارستها من قبل لكن لا تذكر متعة فيهاو كأنه مر دهر على مزاولتك إياها، دهر سحيق غطاها بطبقات كثيفة من الغبار و زينها بشباك عناكب واهنة، و باختيارك ستعود إلى قيودك مراقبا الجحيم خارج جحرك يقوى و يستبد.

 

لقد كانت ثلاثة أيام مريعة و لأن ثالثها كان أسوأها ستفكر في الموت، فيتبادر إلى ذهنك – و الشعور بالاختناق يستعصي تجاهله- كم أن الموت في مناخ كهذا سيكون عملية مرهقة تخيل أن يكون هذا الشعور المقيت الذي يجتاحك و أنت في فضاء رحب نسبيا هو نفس الشعور الذي سيستبد بك في مساحة قد لا تتعدى المتر مربع، مظلمة رطبة و  مغلقة.. في الحقيقة فإنه بالتفكير في الأمر فإن أكثر من سيتكبد خسائر خلال هذه الأيام هم القتلة المتسلسلين، فعلى الرغم من أن أجواء كهذه تشجع بشدة على القتل إلا أن ما يليه من تصرف في الجثة و غيره من تنظيف لمسرح الجريمة و إخفاء الأدلة سيبدو قطعا عملية متعبة مملة خالية من المتعة، و غالبا ما سينتهي الأمر بالقاتل جالسا متربعا جانب جثة قتيله عاجزا عن التصرف و طبعا فما سيلي ذلك أمر من اثنين الجنون أو السجن (الإعدام في بعض القوانين)، و الحقيقة أن عدم تسجيل أي من جرائم القتل في الأيام الثلاثة الماضية إنما يدل على أمر من اثنين أولهما إيجابي بديهي و ثانيهما تخمين يبعث على التشاؤم يرجح أن يكون هؤلاء القتلة أذكياء بما فيه الكفاية فلا يرتكبون جرائم في أجواء مشحونة كهذه. و هذا تطور خطير إلى حد ما، إذ أن معظم القتلة و القتلة المتسلسلين خاصة ليسوا بالذكاء الذي تتوقع منهم و لا بالثبات الذي تظنهم عليه، و كلمة "معظم" هنا تفسح المجال لاستثناءات فلكل قاعدة شواذ في النهاية. إن تطورا في الثبات هكذا لابد أن يعتبر غاية في الخطورة على الغير من المجتمع.

 

لقد كانت ثلاثة أيام مريعة و لأن ثالثها كان أسوأها ستتمنى التلاشي، ستتجول في جحرك جيئة و ذهابا و ستكرر على مسمع من الجميع(إن وجدت مع الغير طبعا) بصوت عال كم أن الطقس أسوأ ما يكون اليوم و كم أنك لا تطيق صبرا انتهاء هذا الطقس المريخي، و لا أحسب أنك تخاطب شخصا آخر أكثر مما تخاطب نفسك، إنما أنت تذكر ذاتك بأنها فترة يتحتم انتهاؤها عاجلا أم آجلا، إن كلماتك و صيحاتك المتكررة هذه ما هي إلا درع واهن أمام الجنون الذي يتهدد عقلك منتظرا الانقضاض عليه في اللحظة التي تتخلى فيها عن آخر خيوط الأمل الرفيعة.

 

لقد كانت ثلاثة أيام مريعة و ثالثها كان أسوأها.. ثلاثة أيام جحيمية كانت، ثلاثة أيام مريخية كانت. و ككل إجازة كان لابد لها من نهاية. فكان من الحتمي للجحيم أن يلتقط نيرانه و يعود إلى مهامه المعتادة من تعذيب للمذنبين و الآثمين من شياطين الإنس و الجن( و غيرها مما لا ندري بوجوده) و وجب على الرياح أن تعود إلى تنظيم عملية التلاقح بين النباتات و تسعد بتأدية دورها بين أقرانها ممن يهدفون إلى أرض تستبد بها الخضرة، بينما كانت الشمس مرغمة أن تعود إلى روتينها اليومي من غزو لربوع السماء و التقاط أسرى و فرائس من هنا و هنالك تستنزف منها ما يلزمها من قوى لتشع بضع ملايين أخرى من السنين. و ها قد حان وقتك للاستمتاع بوجبة لذيذة و الانتعاش بمشروب بارد يعيرك ما يلزم من الطاقة لتنظف أكوام الغبار المتراكمة التي خلفتها المعركة على النوافذ و الأسطح، و هي فرصتي لالتقاط القلم و الكتابة بعد أن استعاد التوثيق متعته و عادت إلي نشوة مرافقة القلم و مصادقة الأوراق.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مراجعة رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد".

مذكرات كاتب بجتر الموت: عندما يعبث بالموت العقلاء

مذكرات كاتب يجتر الموت: آخر ملوك السماء