Articles

مذكرات كاتب يجتر الموت: الغريب في الأفق البعيد

أيها الغريب في الأفق البعيد، إنها الأيام تمر علي جوفاء كأنها دهور، إنها الساعات خناجر فضية تتطاير و تغتال ذرات الهواء من حولي.. أيها الغريب في الأفق البعيد، إنني أتأمل الأماكن فلا ألمح فيها غير انعكاسي و أتفقد الأزمان فلا أجد فيها إلا أشباحي المقيدة. إني ألمح رفاقك أينما وليت وجهي، أراهم يعرهون إلى بعضهم البعض، أراهم يحوطونني بنظرات الخيبة و الغضب. أيها الغريب، إننا على عهدنا باقون و إننا لم نكف يوما عن عد الثواني و الساعات أملا في لقياك. أيها العظيم، إننا زينتك بنا تتباهى و بك نلمع و نبرز، و إننا دونك مصابيح مهملة نسي أحدهم إطفاءها فحكم عليها بالاحتراق حد الموت. رهائن الفراغ المظلم نحن، يحوطنا تدريجيا و لا نملك من القوة و الحيلة غير كثرة عددنا و إننا نخشى أن يتمكن من الانفراد بنا فتضيع صرخاتنا الصامتة في ثناياه..  

مذكرات كاتب يجتر الموت: آخر ملوك السماء

 ليلة ظلماء، النجوم فيها عشوائية غريبة عن بعضها البعض، متنافرة لا يألف أحدها الآخر.. لي في السماء شريك تخلى عني للموت و هرع ينجو بنفسه و يخفيها بين الظلال، ينتزع من جسده أجزاء تلو الأخرى و في عهدة النجوم يتركها إلى أن تحول إلى منجل يجوب حقول الفضاء بعد أن كان يوما شمس الليل و نور ممالكه. و من زجاج نافذتي أتأمله يتحول إلى سلاح مطارده. أشفق على النجوم المسكينة، تلك التي كانت يوما متحدة تكون لنفسها في السماء قلاعا و أبراجا، إلى أن استجار بها ساحر غريب كانوا لا يلمحونه إلا على بعد سنوات ضوئية، لجأ إليهم فخورا ببهائه متباهيا بضيائه، ذاك (الضياء) الذي راجاهم أن يتخذوا بعضا منه أمانة إلى حين، و لما كانوا شديدي الافتتان به استعجلوا الموافقة بل استحسنوها و اتخذوها شرفا لهم. "الفتنة أشد من القتل"، فكل حجر في رواق الفتنة يمهد الطريق لعربة الغرور و الوحشية و يفسح المجال أمام سيارات الموت البطيئة. و من المؤسف أن تكون مخلوقات على قدر من العظمة كالنجوم تترأس لائحة المفتونين البلهاء، من المحزن أن ترى أمانتهم تلك تسرب ظلام روحها إلى جدران قلاعهم لتحيلها ترابا يهيم في الفراغ و تحيل أبراجهم أ...

مذكرات كاتب بجتر الموت: عندما يعبث بالموت العقلاء

 مامن عاقل تسول له نفسه أن يعترض طريق الموت أو يعبث ببقاياه، هكذا كانت الغريزة الأولية للبشر و على هذا المبدأ عاشوا دهورا ليست باليسيرة. و جهلك به لا يحميك من عواقب خرقه. سمعت عن مكان يعبأ فيه البلهاء ممن دلسوا ممتلكات الموت داخل علب اسمنتية بأقفال من صلب و حديد، و سمعت أن بعضهم قد يقدم للموت ترضية و إكراما.. لا أدري إن كانت هذه أساطير الأولين أم أنها حكايات من التاريخ تيتمت قسرا من كتبها و مخطوطاتها و لم تجد من يتبناها إلا ألسنة البشر، يسلمها بعضهم لبعض بعد أن يقضم منها ما يشاء. لا أرى أمامي إلا جثثا شاحبة، مزركشة بأوشام سوداء حفرت بيد مترددة لتملأ بظلمات الليل و تصقل بنيران الجحيم. لا أرى أمامي إلا الموت متجسدا، يحدق بي ثابتا مصرا. مشلول أنا، أندفع لالتقاط قلمي -علني أضع لهذه المهزلة حلا يرضي هذا الشبح القاتم ثقيل الظل أو على الأقل يطرده بعيدا- فلا القلم يطاوعني و لا الأوراق ترضى الخضوع.. مشلول أنا، كل خط و كل حرف -ينتوي عقلي رسمه- يتجمد في حلقي و يشل حلقات تفكيري، محاصر أنا كعنقاء على وشك الاحتراق في أعماق المحيط.  

مذكرات كاتب بجتر الموت: كأس المصير

    إني أستطيع أن أرى الكوارث و الفجائع تندفع مسرعة متسارعة من بوابات مفتوحة على مصارعها. و إني أحسب أن صاحب أمثولة "المصائب لا تأتي فرادى" رأى منها ما رأيت. و إني أحسب أن مفاتيح تلك البوابات كؤوس رميت عبثا في سبل مصائر البشر، يتجرعها عابث واهم فيحسب أنه بذلك فائز بما توهم عقله و تمنت عيناه و لا يدري أنه بفعلته هذه فتح بابا من أبواب الهلاك على نفسه و على غيره ممن ألقى بهم منجنيق القدر في دربه. و هكذا فقد كان حقا على المصائب ألا تأتي فرادى. كيف تأتي فرادى و قد فتحت لها بوابات الحرية بعدما كانت سجينة جدران اللاوعي البشري، كيف تأتي فرادى و قد مات سجانها، ذاك الذي كان يحول بينها و بيننا و ظلت جثته كما روحه   حبيسة زنازين سجنه و أسواره.  

مذكرات كاتب يجتر الموت: ابتزاز للغد

  أقرأ للمنفلوطي في كتابه "النظرات" كلمات يتغزل فيها بالغد، يتراءى لي و هو يهمس له بمزايا غموضه و يعددها له آملا أنه بذلك يمهد له طريق الغرور و الافتتان بالذات، راجيا أنه حالما يهم بعبوره سيزيل عن نفسه لثام الغيب و يلقينا بخفايا المصائر. يعاتب كاتبنا الغد.. يعاتبه على اجتراره اليوم لكتابات الأمس، على جهله ما إن كان سيتسنى له إتمامها غدا أو كتابة غيرها.. و إنني أنتظر بفارغ الصبر اليوم الذي تقع فيه يداي على كتابه الذي يبتز فيه الغد و يقايضه بالثناء و الأمداح مقابل الوقت و الأسرار.

مراجعة رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد".

    رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد". ما الذي يجعل هذه الرواية مثيرة للاهتمام؟ أكثر ما يجعل هذه الرواية مثيرة للاهتمام (في رأيي "المتواضع") يكمن في سمعة كاتبها طوال مسيرته "الأدبية" و ما امتازت به أعماله من إثارة للجدل بحيث يستحيل تقريبا أن لا يكون القارئ منا قد سمع أو قرأ عنه مرة واحدة على الأقل في مكان ما. أحمد مراد كاتب تجاري قبل كل شيء، ما يعني أنه يحرص على أن تكون أعماله بشكل أساسي و قبل كل شيء جذابة و مثيرة سواء من حيث الأفكار التي يجب بالطبع أن تكون جدلية غريبة و غامضة   لكن و مع كل ذلك يجب أن تكون مألوفة و متجدرة بشكل أو بآخر في الخلفية الثقافية للقارئ المستهدف (سواء أكانت هذه الخلفية تاريخا مضى و انتهى أو كانت مستمرة يتشكل حاضره على أساسها) و هذا طبعا حتى يضمن نوعا من تماهي القارئ مع روايته. و دعونا نأخذ الروائي التجاري العالمي "دان براون" مثالا. القارئ الذي سبق له أن عاش تجربة القراءة لدان براون سيلاحظ طبيعة المواضيع التي يناقشها و التي إما تكون مبنية على قضايا و مخاوف راهنة يسلط الإعلام أبواقه و أضواءه ...

عن علاقة القهوة بالشر

  المتأمل في مشهد مسحوق القهوة و هو يسبغ الظلمة على المياه الدافئة سيجده عظيما و ملهما لا شك، بل و فيه من الاسقاطات و العبر الكثير مما يعجب له العقل. ما من عاقل يسكب مسحوق القهوة في الكوب حبة حبة و إنما تسكب إجمالا مرة واحدة ثم يحدث أن يتسلل إلى قاع الكوب أول الأمر عن طريق سحابة مظلمة قليلة الكثافة تتوسع شيئا فشيئا إلى أن تغدو المياه حالكة السواد لا تميز سطحها من عمقها، و هكذا نكون قد حصلنا على قهوة سريعة التحضير مركزة غامقة تزداد لذتها و نشوة احتسائها بإضافة قليل من مسحوق السكر. هكذا و على نفس الخطوات تسير الظلمة و الشر البشري. هنالك تعبير أحسبه منتشرا بين أخصائي علم الاجتماع: "خطوات الشيطان" و يقصد به التدرج في التغير و التدريج في التغيير. فلا أحد يولد شريرا و الظلمة لا تستحوذ على أحد بين ليلة و ضحاها. إن التدرج هو الذي يولد الوحوش داخلنا، و لما كان  توالي الآثام الصغيرة يولد الألم و العذاب في نفوسنا كان طبيعيا أن نبررها(تلك الآثام) علنا نتخلص من عبء المعاناة. و فقط بعد هذه الخطوة يبدأ الشيطان بالزحف و التوغل في ذواتنا و تزداد فظائعنا شناعة بمرور الأيام منتقلة من آث...