بين وهم الوجود و وهم الزمن

یؤثر الزمن أكثر من أي شيء آخر على الوجود عامة و على البشر و الإنسان خاصة، فالزمن مؤطر للوجود، فلا وجود خارج إطار الزمن. و في المنحى المعاكس فإن الوجود أیضا مؤطر للزمن و بالتالي فانعدام الوجود یعني انعدام الزمن، فالزمن لا یقیس وجود العدم او انعدام الوجود. و إنما یقیس الوجود اي انه لا یمكننا الحدیث عن زمن خارج الوجود أو عن وجود خارج الزمن. إن العلاقة بین الوجود و الزمن علاقة جد معقدة تجعلنا نتسآل عن ماھیة الزمن. فكما ھو واضح فإن وجود الوجود یقتضي وجوده داخل الزمن و وجود الزمن یقتضي وجوده داخل الوجود، و بھذا یكون التساؤل عن حقیقة الزمن ضرورة و ستقتضي منا الحاجة طرح اسئلة كثیرة من قبیل : ما الزمن؟ و كیف وجد؟ و ما علاقة الوجود بالزمن؟ ھل الوجود أصل الزمن أم أن الزمن أصل الوجود؟ ھل یمكن حقا أن یظھر الوجود و الزمن فجأة من العدم ؟
العدم سيد الأوهام
لا أدري كیف لعقل بشري أن یتصور العدم، و لأكون صریحة أنا لا أستطیع فعلیا تصور العدم ، فكلما أحاول تصوره أجد أني أتصور وجودا قائما بحد ذاته، فعندما أتصوره فراغا أسودا عمیقا فإني أتصور موجودا و عندما أتصوره فضاء شفافا خالیا فذاك أیضا موجود. إذا كیف لي أن أتصور العدم؟ إن العدم یعني انعدام الوجود و عندما تتصور فإنك توجد ما تتصوره، أي أنك عندما تتصور فإنك تخلق موجودا. و بناء على ھذا فإني أتسآل فعلا ما إن كان للعدم وجود أو ما إذا كان من الممكن أن ینعدم الوجود قطعا
 الكثیر من الناس یدعون أنه قبل وجود الوجود الذي نستطیع إدراكه لم یكن ھنالك وجود لشيء إلا للعدم ، أي أن انعدام وجود معین یعني بالنسبة لھم وجود العدم، و ھذا غیر منطقي. ذلك أن عدم وجود الشيء لا یثبت بأي شكل من الأشكال عدم وجود غیره، أي أن عدم وجود الوجود الذي نعلم عنه لا یمكن ان یثبت مطلقا وجود العدم، ھذا إضافة إلى أن وجود الشيء لا یلغي احتمالية وجود غيره. إن دورة الحیاة المتداولة في الوجود تلغي احتمالیة وجود العدم، فھذه الدورة تقتضي وجود نھایة لكل بدایة كما تقتضي أن تكون كل نھایة بدایة جدیدة. و بالتالي فإنه ما من كیان یبتدئ بالعدم كما أنه ما من كیان ینتھي بالعدم.
منذ الازل و الى الابد؟؟؟
إن إلغاء احتمالیة وجود العدم لا یمكن أن یثبت بأي شكل من الاشكال أزلية الوجود أو أبدیته. فالوجود عبارة عن سلسلة تفتتح بتأسیس وجود ثم یلیه تطور ھذا الوجود و بعدھا یتدھور و ینھار لیتأسس على أنقاضه وجود جدید أو أكثر من وجود. فالوجود لیس أبديا إذ له نھایة كما أنه لم يكن أزليا إذ كانت له بداية، و بداية كل وجود نهاية للوجود الذي قبله. و السلسلة التي توجد حسبھا الموجدات ھي الأخرى أمدية إذ لھا بدایة لم تكن من العدم و لھا نھایة لا یمكن أن تكون إلى العدم.
الوجود أصل الزمن العام
إن الزمن لیس أزلیا باعتبار أنه متأصل في الوجود (و الوجود متجوھر في الزمن بحد ذاته)و إنه لمن البدیھي و إن كنت لا اؤمن بالبدیھیات في معظم الأحیان القول بأن الوجود أصل الزمن. أي أن الزمن وجد لحظة خلق الوجود و لیس قبل ھذه اللحظة أو بعدھا. و الزمن كغیره فان. فالزمن الذي نعرفه و الذي تأصل في وجودنا لیس ھو نفس الزمن الذي تأصل في الوجود السابق و لا یمكن ان یكون نفسه الزمن الذي یفترض تأصله في الوجود اللاحق. و لیس ھذا فقط بل إن الزمن داخل كل وجود ینقسم الى ملایین الأنواع و الأشكال التي یصعب جردھا و حصرھا. و لا أظن أني أبالغ إن قلت أن الزمن كائن حي یولد فینمو و یتطور ثم يموت.
الزمن لا یقتل الحیاة و لا ینتظر موتھا بل إنه لا دخل له مطلقا بفناء الحیاة . إنه مجرد كیان اخر من كیانات الحیاة تتلاعب به كیفما شاءت فتبرزه إن ھي أرادت و تأسره إن ھي شاءت. و على
 عكس ما یشاع بین الناس فإنه لا زمن للموت، فالموت بحد ذاته ھو نھایة الزمن. ذلك أن الزمن نشأ أساسا بنشأة الحیاة و تأصل في جوھرھا و من الطبیعي أن یفتك به الموت كما یفتك بالحیاة نفسها.
الزمن و الإنسان
الزمن شيطان محترف یقید الإنسان بأغلال من فولاذ و یرمي به إلى أعمق حفرة في الجحيم
 
الإنسان عاشق للزمن و محب له، ذلك أن وجوده یلھمه و یحفزه على التفكیر في ماھیة ھذا الكائن الاستثنائي(الزمن) فیطرح الكثیر من الاسئلة من قبیل : ما الذي یجعل الزمن الواحد یعبر عن نفسه داخل الوجود الواحد بالتعددیة المطلقة؟ لماذا یصر الزمن على أن یتأصل في كل كائن من كائنات الوجود؟ ما علاقتنا بالزمن؟ ھل نحن في سباق مع الزمن؟ في صراع؟ في حرب؟ ھل أنا المتحكم بالزمن؟ أم أنه الذي یخضعني؟ لماذا الزمن الذي نعیش فیه خارج أنفسنا مختلف عن الزمن المتجوھر في ذواتنا؟ ھل أنا نتاج أحد أنواع الزمن؟ أم أنني من أنتج الزمن؟
و الحقیقة أن المسار الذي سلكه الإنسان و أدى به في نھایة المطاف إلى طرح ھذا النوع من الاسئلة إنما ھو مسار خاطئ اساسا. فالإنسان و بكل بساطة لما أراد أن یفكر في إشكالیة علاقته بالزمن قام بفصل نفسه عن الوجود، فأخد یتسآل ما إذا كان ھو الذي یخلق الزمن أم أن الزمن ھو الذي انتجه، و قد نسي أو تغافل عن أنه لیس الكائن الوحید الذي یعیش في صراع مع الزمن ونسي أيضا أنه وجد لیظل جزءا من الوجود حتى فنائه و لا یمكنه ان یفصل نفسه عن ھذا الوجود أو أن یعتبر نفسه سیدا له. فمھما بلغ الإنسان من التمیز سیظل كائنا من كائنات الوجود تنطبق علیه قوانینه الصارمة كما تنطبق على غیره. و بالتالي فإن علاقة الإنسان بالزمن تظل ھي نفسھا نسبيا علاقة الوجود العام بالزمن.
و مع كل ما سبق تظل أسئلة الإنسان مثیرة للاهتمام و لا یجب أبدا تجاھلھا فھي في النھایة نتاج عقل تعب في التفكیر و التحلیل و تجاھلھا سیكون نوعا من الاستعلاء، خاصة إشكالیة التبعیة بین الإنسان و الزمن. و لحل ھذه الإشكالیة وجب على الإنسان استحضار -و كما ذكر سابقا-حقيقة كونه جزءا حیویا من الوجود. فالوجود إنما ھو مجموع الكائنات المتواجدة داخل مؤطر معین حیة كانت ھذه الكائنات أم في سبات. و بالتالي و بما أن الوجود ھو الذي یؤسس الزمن و الإنسان عنصر بالغ الأھمیة في ھذا الوجود بحیث تؤثر افعاله في ھذا الأخیر تأثیرا فاعلا فعالا فلا یمكن للإنسان ان یكون نتاج الزمن كما لا یمكن للزمن أن ینتج أي عنصر من عناصر الوجود. و في المنحى المقابل فإنه لا یمكننا أن نقول أن الإنسان ابتكر الزمن أو أنتجه من منظور الإنتاج المطلق إنما كل ما فعله هو اكتشاف هذا الزمن و تطويره و إخضاعه.
و على عكس ما یظنه البشر فالزمن خاضع للإنسان و قابلیة التلاعب به تظل في متناوله. و ھذا لا یعني أن الإنسان حر حریة مطلقة في الزمن بل إنه أيضا (الإنسان) خاضع لبعض تأثیراته (الزمن). لأننا لو سلمنا بحرية الإنسان في الزمن أو بحريته منه سيكون علينا أن نسلم بأنه عنصر وجودي يعيش خارج الزمن و هذا غير ممكن. إضافة إلى أن الإنسان كائن من أواخر عناصر الوجود من حيث الظهور، و عندما ظهر الإنسان كان الزمن بالفعل موجودا.
زمن ام أزمان ؟؟؟؟
إن التنوع المطلق للزمن في عمق بلورة الوجود الواحد إنما ھو نتاج تطویر عناصر الوجود لھذا الزمن. ذلك أن كل عنصر وجودي حیا كان بالمعنى المتداول أم غیر ذلك یطور زمنا داخلیا مختلفا عن زمن غیره. و ھنا نستطیع أن  نقول أن أصل الزمان كان واحدا و سیظل، و الزمن الذي نشأ من ھذا الأصل واحد أيضا و لكن طرق ادراكه و طرق تطویره و التعبیر عنه تختلف من عنصر إلى آخر، بل قد نجد طرقا مختلفة في نطاق نفس العنصر.



Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مراجعة رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد".

مذكرات كاتب بجتر الموت: عندما يعبث بالموت العقلاء

مذكرات كاتب يجتر الموت: آخر ملوك السماء