الإنسان الفاضل
"الإنسان الفاضل" هذا اللقب الرنان البارق اللامع الذي
له من القوة و السلطة ما يستطيع بها إغراء الناس ليبذلوا الغالي و النفيس في سبيله
(أو على الأقل كان كذلك في زمن من الأزمان)، هذا اللقب الذي تسعى طائفة من
المخلوقات الآدمية إلى استحقاقه و التوسم الشريف به بينما تولي طائفة ثانية
اهتمامها لنيله ظاهريا و اسميا فقط دونما اي التزام صريح بما يستوجبه هذا الفعل من
التزام بقيم الفضيلة و الدماثة و رقي الأخلاق، و إنما في حقيقة الأمر تكون محاولة
الظهور بمظهر الإنسان الفاضل لدى الطائفة الأخيرة مدفوعة بنوايا خبيثة و محفزة
بدوافع خسيسة نابعة من رغبة مرضية أنانية في الحصول على مجمل المنافع الظاهرية
المادية و المعنوية التي تجود بها مجتمعاتنا على كل من ترى فيه لمحة من فضيلة أو
بعضا من الاستعداد لإبدائها (أو على الأقل كانت(المجتمعات) تفعل ذلك في فترة من
الفترات). و إن كان كل ما سبق ذكره في الأسطر السالفة يوحي بشيء عن الفضيلة فإنما
يوحي بأنها ظاهرة مجردة محيرة تحمل من المعاني و التأثيرات الكثير و بالتأكيد
ستحفز التساؤل و الشك و التشكيك في ماهيتها، و بناء على هذا فأنه لابد لنا من طرح
جملة أسئلة و تساؤلات من قبيل: ما الفضيلة؟ ما منابعها؟ ثم على أي أسس أو دعامات
تقوم؟ و إلى أي سبب دافع يعود قيامها هذا؟ و ما تجلياتها؟ و أخيرا، ما السبب في
البحث المستمر عنها و تفضيلها؟
الفضيلة...شخصية
مائية
سيرا على النهج الذي ينص على أن فهم ظاهرة معينة -أيا
كانت هذه الظاهرة- يعتمد أساسا على الملاحظة و التعريف الصحيح لها( و تجاهلا لما قد
يحمله هذا النهج من مخاطر الضياع و الدوران في حلقات مفرغة لا نهائية) فإنه لا بد
لنا قبل كل شيء من محاولة تعريف الفضيلة تعريفا مبنيا على الملاحظة و المقارنة،
لكن الإشكال هنا يكمن في طبيعة الفضيلة المتغيرة حسب الأوساط و نسبيتها في
المجتمعات، فما يعتبر إنسانا فاضلا في مجتمع معين قد يكون أبعد ما يكون عن الفضيلة
في مجتمع آخر، و ما يعتبر قمة الرقي و الفضيلة في ثقافة من الثقافات قد يعتبر مبلغ
الانحلال في غيرها من الثقافات. إذ أن قتل الذات بما يشكله من إيذاء لهذه النفس و
للمحيطين بها و بما يمثله من عنف و اعتداء على دائرة الحياة و الطبيعة في معظم
المجتمعات، قد يكون أمرا مشرفا بل و مشجعا عليه في ثقافات معينة. و من هنا يمكننا
أن نلحظ إشارة الخطر الحمراء تومض محذرة إيانا من تعريف الفضيلة باستعمال العنف أو
بالنسبة للأفعال العنيفة المستقلة لأن كليهما على حد سواء ظاهرتان نسبيتان. كما لا
يجوز لنا في حال من الأحوال صياغة تعاريف للفضيلة تعتمد في أساسها على مفهومي
الخير و الشر، إذ أنهما بحد ذاتهما لا يزالان موطن جدل و نقاش و مجهولي الطبيعة و
الماهية، و تعريف مجهول بمجهول لهو جريمة لا ينبغي لها أن تغتفر. لكن من ناحية
أخرى فإن الفضيلة -كأي كيان معنوي مجرد آخر- تستحيل لها الطبيعة الشبحية و على
الرغم من امتلاكها لطبيعة مائية سلسة تتيح لها التغير الحربائي داخل المجتمعات
فإنها و كالمتوقع تتمتع بملامح هلامية عامة لا يطالها التغيير و إن تغيرت الأوساط
المحتضنة لها، ما يعني وجود خطوط عريضة لا يستطيع التغير الثقافي تمويهها أو
تجاوزها. و أحد هذه الخطوط يتجلى في كلمة واحدة: الإيذاء، أو عدم الإيذاء إذا
أردنا أن نكون أكثر دقة. بمعنى أصح فإن الفضيلة في أكثر معانيها تعميما و عمومية
هي تجنب إيذاء النفس أو الغير سواء أكان هذا الأذى نابع عن رغبة خسيسة شريرة أم عن
نية خيرة تعبر عن نفسها داخل براثين الشر. و هذا يترك مجالا للمجتمعات لتحدد
فضائلها و لتحدد الأفعال التي ستعتبرها إيذاء و إخلالا بمصلحة الفرد أو الجماعة، و
بناء على هذا فإن الأفعال العنيفة التي تعتبر مجرمة في مجتمعات عدة قد تعتبر من
الفضائل إذا أقرها العرف العام بحيث روضت الفطرة الجماعية و كفت عن اعتبارها
مؤذية. و أيضا و بتبني هذا التعريف سيمكننا جعل فضائل المجتمعات تلتقي في منطقة رمادية
محايدة تتيح لها الانسجام فيما بينها، و بتجنب الفرد التسبب فيما قد تعتبره
مجتمعات أخرى أذى لها أثناء وجوده في ضيافتها و هكذا يستطيع الإبقاء على صفة
الفضيلة مصبوغة عليه. فإن استمر وجود الفضيلة في عالم اليوم فإن ذلك لا يعود إلى
الامتناع عن العنف و إنما عن الأذى، هذا الشرط الأخير الذي يشمل الامتناع عن العنف
إذا ما اعتبر أذى أو التطرف في التخلي عنه مع الفئات التي تعتبره أذى.
الفضيلة كوليد للخوف
إننا و بعد ان أقررنا بوجود الفضيلة و استنبطنا مما بدا
لنا فضيلة في عديد من الأوساط تعريفا أقرب ما يكون إلى العام لها، وجب علينا البحث
في مصادر هذه الفضيلة و أصولها الفكرية السلوكية. فمن البديهي أن المفاهيم
الاجتماعية لا تأتي من العدم و لا هي نتائج البديهة كالنسخ البدائية من المفاهيم
الذاتية، و إنما تنشأ عن حاجة ملحة لها. مما يدفعنا إلى النظر في أصل الحاجات التي
جعلت من الفضيلة ما هي عليه اليوم.
و لأن التاريخ علمنا أن الخوف أحد أقوى الدوافع
الاجتماعية إن لم يكن أقواها، فإننا ببعض من الملاحظة سنجد أن هذا الدافع حاضر و
بقوة عظيمة في موضوعنا هذا. إذ أن الفضيلة في جوهرها وسيلة دفاع عن النفس و حفظ
البقاء، ذلك أن الإنسان تعلم على مر الزمان أن القوة الجسدية و المادية فانية
عاجلا أم آجلا، مما يعني أن كل قوي هو فريسة يتم تسمينها ببطء شديد لقوي آخر، و
على كل فرد أو جماعة مستقلة أن تقلق على مصيرها يوما بعد يوم و أن تجتهد في تدبير
المكائد و تشييد الدفاعات لذرء أذى الغير، الشيء الذي كان متعبا جدا أنداك. و بعد
تأسيس المجتمعات و وضع القوانين التي يفترض بها أن تحمي الأفراد من أذى بعضهم
البعض مع الأخذ بعين الاعتبار الأعراف السائدة في مناطق تلك المجتمعات -التي تناسب
ما يتم اعتباره منطقا فيها- تم تضمين الفضيلة بشكل غير مباشر كشرط أساسي لصلاح
الفرد في أي مجتمع. و تم اعتبار الفرد الفاضل هو الذي يمارس أنشطته في ظل القانون
الذي يفترض أنه يتضمن الفضيلة و يشجع عليها. و هكذا ضمنت مبادئ الفضيلة الحماية
لأفراد المجتمع. و خارج هذا التعريف فإن الفضيلة لا تتعلق دائما بالقانون و لا
تنزوي دوما في إطاره، فهي قد تعني محاربته إن ثبت أنه خرج عن الغرض الذي صنع من
أجله أو أنه يسبب أذى حقيقيا للناس.
الفضيلة...رغبة
أنانية
تعتبر الرغبة في التميز و الاهتمام و البقاء تحت أضواء
المجتمع دافعا ملحا و محفزا جدا لبني البشر، و عليه تبنى الكثير من الرغبات
الآدمية، و بناء على هذا فإن التحلي بالفضيلة لا يتعدى كونه رغبة من هذه الرغبات.
فإن كان المجتمع يحبذ البشري الفاضل عن غير الفاضل لما ذكرناه من قبل من اعتبار
الفضيلة وسيلة للأمن و الاستقرار و حفظ النفس و بالتالي المجتمع، فإنه و في المنحى
المعاكس ترافق هذه الرغبة رغبة ملحة للأفراد في نيل رضى الآخرين و الانتفاع بما
يتبع ذلك من استحقاقات. و بالتالي فإن الفضيلة نتيجة لرغبة أنانية في الاحتفاظ
بالقوة و البقاء في طليعة الصفوة، فالقوة المادية كما ذكر سالفا تضعف مع الوقت و
عندما يحدث هذا فإن المجتمع يستبد بمن اعتادوا الاستبداد به في معظم الحالات، و
تفاديا لهذا المصير البائس يختار معظم الناس أن يتحلوا بمطهر الفضيلة أو أن يتظاهروا
على الأقل بالتحلي بها ليستفيدوا من حماية المجتمع و تضامن الفراد الآخرين عند أي
كربة من الكرب التي قد تقفز إلى طريقهم.
الفضيلة و البقاء
للأصلح...إرث العوائل
انطلاقا من مبدأ البقاء للأصلح الذي تعمل به الطبيعة
عامة و الجانب العاطفي الاجتماعي من البشر خاصة، فإن الفضيلة كإرث للعوائل و كنهج
تربوي إنما ظهرت لتعزز الصورة المثالية للمجتمع عن سلالة أو أسرة معينة، و تجعلها
أجدر بالبقاء و الثناء أيضا على هذه الجدارة باعتبارها أسرة استطاعت الحفاظ على
قيم الفضيلة و نقلها عبر الأحيال. و بالتالي فغن هذا في نظر المجتمع قد يكون عاملا
مساعدا لترشيحها للحصول على مناصب قيادية في هذا المجتمع. و بهذا تنتقل الفضيلة من
كونها وسيلة لحماية النفس و لإرضاء الرغبات الفردية الأنانية إلى أداة لنيل السلطة
و المناصب و المرتبة الاجتماعية.
Commentaires
Enregistrer un commentaire