لحظة




أوراق الشجر التي تلاقي الأرض أول مرة ...براعم الأزهار التي تتمايل احتفالا بهبات الشمس و ترقص على ايقاعات الرياح ، ثم تنحني احتراما و إجلالا لأنغام الأمطار...حبوب القمح الذهبية تفترش الأرض الخصبة و تلمع بإغراء يتفوق على إغراءات كنوز المدينة الفاضلة مجتمعة، و كأنها (حبوب القمح) تناجي الطيور متوسلة أن تلتقطها...العصافير بأجسامها الصغيرة مغردة على الأغصان بألحان ما كانت الأرض لتطلب مكافأة أثمن منها، بل ما كانت لتستطيع ذلك من الأساس...هدوء الفراشات و سكونها و هي تتأمل الوجود على زجاج نافذة غرفتي....طمأنينتها العظيمة، ذلك السلام العميق  و ذلك التمسك و التشبث المستميت بمكان محدد من زجاج نافذتي، أمور تغريني بالتمني.....أتمنى....أتمنى لو أنني أرى ما تراه، فلا شك أنه أمر يستحق المشاهدة، و ربما يستحق أيضا كل الاحتفالات الاستثنائية التي تليه حول مصباح غرفتي تلك ....تلك الطقوس الغريبة ، المبهجة، و كأنها تقبل النور المجرد ....
و كأنها تلامس روحها و تتلمسها.....محظوظة هي هذه الفراشات ....جنود الظلام التي تلامس النور دون أن يخفيها أو يموهها....عظيمة هي الفراشات ....ناشرة البهجة و الفرحة ،  متغذية على الموت وأشقائه.....فريدة هي الفراشات ....تحوم حول أضواء الموت و تغذي ظلامية الحياة ، لتنزوي لساعات في زوايا الوجود مستهينة و مستهزئة به ، مترفعة عن تفاهاته، متأملة مصيره ، مبتسمة لمصيرها....ربما فعلا يوجد من الحماة من يتغذى على الموت بدل إنتاجه، ملخصا الوجود في فراغ محصور بين معقوفتين: الحياة و الموت ....
طوق النجاة ....لابد أنه طوق من الذهب الخالص، و إلا لما رأيت هذه الحشرات متمسكة به، محاولة تفعيل أجنحتها الصغيرة التي غذتها الأمطار بأحزان السماء و أثقلتها بها، و ها هي الآن تجاهد محاولة رمي هذه الأحزان بعيدا، لا يهم أين و كيف طالما تتحقق النتيجة المرغوبة.....تتراقص على الجدران محاولة التقدم للأمام بأرجلها الصغيرة فتجتذبها دموع السماء للخلف ،لكنها تأبى الاستسلام و تستمر بالمجاهدة متصالحة مع ما تحمله من بضاعة اكتئابية طازجة حينا، و محاولة التخلص منها حينا.....
و تكتمل القطعة بقمر متلألئ وسط النجوم.....منظر يعيد إلى الذاكرة مئات الذكريات من الأساطير القديمة ، حيث القمر يبدو مبعوثا الهيا وسط مسرح ملكي في مملكة تحتفل بالظلام احتفالها بالنور....تحتفل بالوجود احتفالها بالعدم ، ثم بعد أن ينسحب القمر في طقوس اندثار مهيبة، تاركا السماء للنجوم التي تخز الأرض بنظرات الملامة و العتاب ، و تحكي لصخورنا أساطير العدالة و الإنصاف، و كيف أن الملاك الأبيض المنير جبل عليها، و كيف أن التضحية تدفعه لأن ينفي نفسه مع كل دورة لإثبات إخلاصه لقيمه تلك ......
ها هو السحاب الناري يكتسح السماء معلنا عودة العملاق الناري و مخلدا مساره في خط السماء، الهجوم المباغت للشمس على العالم لتعلن تجددها و أبديتها، و لتكذب مراسم عزائها التي شيعها القمر في لحظة انتصار عابرة و  تائهة في الزمان، و لتؤكد على انتهاء لحظاتي المعدودة هذه.... 

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

مراجعة رواية "الفيل الأزرق" للروائي المصري "أحمد مراد".

مذكرات كاتب بجتر الموت: عندما يعبث بالموت العقلاء

مذكرات كاتب يجتر الموت: آخر ملوك السماء